ذكرى أم درمان

18 نوفمبر 2010
بواسطة في مقالات مع (0) من التعليقات و724 مشاهدة

ذكرى الكلمات الأداء والألحان

يستحيل على الجماهير الرياضية الجزائرية أن تنسى أم درمان, ولن تنساها الجماهير المصرية أيضا لما حملته من أحداث وحماس منقطع النظير, الجزائريون يتذكرون تلك الروح الجزائرية الثائرة على اعتداءات القاهرة في حق اللاعبين والجماهير والشخصيات الجزائرية, ويتذكرون الاعتداءات الخسيسة على رموز الدولة وشهداء الوطن, تلك الروح الجزائرية التي أصرت على انتزاع الفوز في أم درمان, وصنعت أجمل الصور في تاريخ كرة القدم الجزائرية, صور الجماهير وهي تتدفق على السودان, وصور اللاعبين وهم يلعبون بروح قتالية عالية, وصورة هدف عنتر يحيى وهو يدخل مرمى الحضري, وصور الاحتفالات بالتأهل الى مونديال العم مانديلا. المصريون أيضا لن ينسوا هذا اليوم فالإقصاء كان مرا مرارة المرارة لأنهم احتفلوا قبل أن تبدأ التصفيات وتعاملوا مع عودنا بعين الاحتقار فأعماهم وأدخلهم ظلمة الإقصاء.

في هذا اليوم استحضرت الكثير من الذكريات, فأثناء التصفيات أتذكر أني جلست في أحد مقاهي المدينة لأتفرج على مباراة مصر رواندا, فمتابعة المقابلات جماعيا فيه الكثير من الحماس والحيوية, وما ميز هذه الجلسة حضور بعض العمال المصريين الشباب الذين كانوا يعملون في قطاع الكهرباء في المناطق الريفية, قبل بداية المباراة توجه صاحب المقهى بالحديث الى الجميع ونبههم الى وجود أشقاء مصريين بيننا ونصح بعدم تجاوز حدود اللباقة والأخلاق والى ضرورة احترام المجموعة, لقد كانت لقطة أروع من اللقطات الرياضية في المستطيلات الخضراء, استحسنها الجميع بالتصفيقات والتعليقات التي لم تخرج عن حدود الروح الرياضية, فشاءت الأقدار أن أجلس بجانب أحدهم الذي لم يخف تذمره من طريقة لعب الفريق المصري وخيارات المعلم شحاتة, وأيضا لم يخف رغبته المشروعة في تأهل الفريق المصري الى نهائيا كأس العالم وكاس إفريقيا, فلم أتردد في الدخول في مناقشة معه فقلت له

-لا يمكن لفريق أن يستمر في حصد الألقاب الى الأبد لا بد من التجديد فهناك من اللاعبين من أكل عليهم الدهر وشرب.

لكن يبدو أن كلامي لم يعجبه فدار ليكمل حديثه مع زميله, لكني أكملت حديثي بقولي

- على كل المنتخب المصري منتخب ضعيف ولن يصمد طويلا في التصفيات.

فبدت إشارات الغضب على وجهه لكنه لم يبدها واحتفظ بها وراء حروف ملامحه, لكن ذلك لم يفسد للود قضية فواصلنا التعليق على لقطات المقابلة, الى حين تبادر في مجموعتنا سؤال لمن تريد الفوز اليوم؟ إجابة صديقنا المصري كانت واضحة طبعا, فيما قال آخرون أنهم يرغبون في فوز رواندا حتى تزداد حظوظ الفريق الوطني, وفاجأت الجميع بالقول أني أريد للفريق المصري أن يفوز بجميع مبارياته وأريد للفريق الجزائري أن يفوز بكل مبارياته أيضا, بما فيها مباراة القاهرة وقلت بأني أريد تأهلا عن جدارة واستحقاق ولا أريد هدية لا من رواندا ولا زامبيا, فحدق المصري في وجهي برهة وتوجه نحو الشاشة وفي ملامحه الكثير من الحيرة.

تعود إلي ذكريات أخرى جميلة في يوم مباراة أم درمان الرائعة, فقبل المباراة دخلت الى المنزل فوجدت زوجتي منهمكة في حياكة راية وطنية كبيرة, وقد اختارت لها قماشا ناعما وبراقا, وما أدهشني أن زوجتي المصون لا علاقة لها بكرة القدم فهي والكرة اثنان متضادان, ولا تفهم من عالم الكرة غير نتيجة الفوز أو الخسارة, فأدركت أن السر الذي دفع الشيخ والشاب للذهاب الى السودان, والسر الذي دفع كل الجزائريين لمتابعة المقابلة وعلى الأعصاب في ديارهم وفي المقاهي والساحات العمومية هو نفسه الذي همس في دماغ زوجتي وجعلها تخيط راية وطنية رائعة وتشجع الفريق الوطني على طريقتها, لم أفوت الفرصة فجلست ورتبت لها الهلال والنجمة وسط الراية وتابعت عملية الخياطة الى النهاية, وزاد من جمال الراية تلك الهوامش الذهبية الشكل فبدت في النهاية مثل الراية التي يرفعها الحرس الجمهوري.

لحظة المباراة كان العشاء جاهزا, عشاء ليس كبقية الأيام بل كان عائليا ومميزا بتوابل أم درمان, تابعت المباراة على الأعصاب حتى أني لم أكن أتذوق شيئا مما آكل, كانت عملية مضغ وبلع وحسب, وكانت والدتي تثير أعصابي من وقت لآخر بتدخلاتها العفوية الساذجة فهي لا تفهم جراما واحدا من عالم الكرة, فكثيرا ما كانت تتدخل دون أن تنظر الى الشاشة, أو تتكلم وهي منهمكة في فك مفاصل الدجاجة المشوية:

- من يكون هذا الحارس هل مصري أم جزائري؟؟

- ماذا هل سجلوا علينا؟؟

- يا حييه في بالي غادي نخسرو

أغلب فترات المباراة شاهدتها واقفا على رجلاي أو متوقفا عن المضغ مؤجلا عملية البلع حتى تنتهي اللقطة, أم متوسلا والدتي حتى لا تثير في أمواج الغضب والقلق, وجاء الفرج أخيرا بعد صاروخية عنتر يحيـــى و بعد صافرة النهاية, فلم أتردد في مد فمي 180 درجة خارج النافذة صارخا …وان تو ثري فيفا لالجيري…, …تحيا الجزائر…. حملت الراية الوطنية الجديدة بعد أن وضعت لها يدا جميلة وطفت بها في وسط المدينة, المكان الذي اختاره الجميع من أجل الاحتفال, قوافل السيارات المزينة بالأعلام الوطنية لم تتوقف عن المسير ولم تتوقف مزاميرها عن حبك أعذب النوتات ..بيب بيب بي بي بيب..حتى الفجر, والتف الشباب في مجموعات يرقصون على أنغام الدربوكة, يرقصون ويصفقون وما تلبث أن تنتهي أغنية حتى تعاد أخرى أو تكرر دون كلل أم ملل, كما صنع آخرون الفرجة بالألعاب النارية التي كانوا يصنعونها من قارورات المبيدات, في هذا الحفل البهيج ومن صدمة الفرحة اختار شاب أن يساق فوق سيارته وقد تجرد من ملابسه حتى كادت تلمس بطنه المنتفخة سطح السيارة ورفع يديه الى السماء مشيرا بهما برمز النصر, يخفضهما ويرفعهما مع كل صرخة يصرخها, ويميل جسمه المثخن بالشحوم نحو الأسفل والى الأعلى حسب اللحن… وان تو تري فيفا …لالجيري…, كان يرددها بجنون ودون توقف, حتى أننا خفنا أن يكون قد ضيع سقفه, أو يكون رسميا قد دفع ملفه الى مصالح الجنون, لكن الراية التي حملتها كانت عروسا تلك الليلة لقد رفرفت عاليا فوق كل الرؤوس, وسلبت الأنظار من كل المشاهد, لقد سحرت بجمالها الجميع ولم يتردد المحتفلون في طلبها من أجل أخذ صور تذكارية, لقد كانت ملكة في كل القلوب وفي كل العيون.

كل الجزائريين ناموا تلك الليلة في أحضان أمهم الجزائر, ونعموا بالدفء وهم يلتحفون الراية الوطنية, ناموا وهم يبتسمون ويبادلون عروس الاحتفالات ضحكتها الملائكية, وحلموا بغد تشرق فيه الجزائر بدل الشمس.

Tweet
1617814
تفضل بتقييم الموضوع
Thanks!
An error occurred!
الاوسمة:

كتب بواسطة :

Retweet

انشر الموضوع

RSS Digg Twitter StumbleUpon Delicious Technorati facebook reddit linkedin Google

مواضيع مشابهة

مواضيع في نفس التصنيف

  • لاتوجد مواضيع مشابهة

أضف تعليق

Social Widgets powered by AB-WebLog.com.