ومشروعية فصل الدولة عن الشعب

كم هي كثيرة القصص التي كنا نسمعها عن استثمارات,وصفقات, وممتلكات بعض أمراء من الخليج في أوروبا وكل أنحاء العالم, قد يكون الأمر طبيعيا عندما نسمع عن ثروة أحدهم التي تتعدى مداخيل كثير من الدول الفقيرة, ولكن الغرابة كل الغرابة عندما نسمع عن استثمارات وممتلكات رئيس دولة وحاشيته في بلد لا يملك أي ثروة باطنية, ونقصد بالمثال الرئيس تونسي وعائلته وطرابسلاته, وأصهاره, فالعائلة الحاكمة في تونس,الصغيرة والكبيرة احتكرت أكبر الاستثمارات في مجال الاعلام والاتصال, والصناعة والتجارة والسياحة واستيراد الماركات العالمية الفاخرة, فيما كان نصيب الشباب التونسي والمغلوب على أمرهم التضييق والبطالة, والتعذيب والقهر, واللامبالاة, وأقول بأن هذا ليس غريبا من نظام يعتمد اللائكية كعقيدة في تسيير شؤون الدولة, النظام الذي يفصل الدين عن الدولة, ويفصل الدين عن الروح الإنسانية, ويفصله عن حياتها ومعاملاتها, وليس غريبا أن نرى كل تلك التجاوزات كنتيجة لهذا الفصل بين الدين والحياة, فالإسلام دين معاملة وأخلاق, دين يحرم السرقة, ويحرم الرشوة ويحرم التعامل بالربا, دين يحرم الظلم والقهر والتعذيب, دين يأمر المسؤول أن يكون مهتما بشؤون رعيته, دائم التفكير في أحوالهم ومشاكلهم, ويحرم عليه المساس بممتلكاتهم أو التصرف في المال العام, وأكثر من هذا فالأنظمة اللائكية في العالم العربي والإسلامي وحتى الغربي تحاول جاهدة من خلال منتجوها الوافر من القوانين والتشريعات, الى فصل الدين عن حياة المواطن, من خلال منعه على إبداء التزامه وارتياد المساجد والأعمال الخيرية, ومنع الحجاب عن المرأة, وعدلت قوانين الأسرة حتى تتماشى ومبادئ الدولة اللائكية, وأباحت كل ما هو إباحي ليظهر على المجتمع معالم العصرنة والتقدم, وبذلت في سبيل ذلك كل الأساليب, فمن النار والتعذيب والسجن والفصل من مناصب العمل, والنفي في بعض البلدان, الى وضع العلامات المميزة في الملفات, والمنع من كثير من الوظائف ومن الترقية في بلدان أخرى, فبالتالي النظم اللائكية في المجتمعات العربية والإسلامية تجد نفسها مضطرة الى ممارسة العنف التشريعي, والبوليسي, والقضائي من أجل فرض مبادئها على المجتمع, وبتنصلها وفصلها للقيم من ممارستها السياسية تجد نفسها منغمسة في المادة, فكل شيء يسمح باستغلال الثروات, وتحقيق أكبر قدر من الأرباح من خلال احتكار الاستثمارات التجارية, والإعلامية, والسياحية, والصناعية, حتى قضايا الأمة الرئيسية تكون سهلة المنال وسهلة البيع بدولارات الكيان الصهيوني والأمريكي, فكل الدول العربية اللائكية المطبّعة مع الكيان الصهيوني تنال امتيازات مادية كبيرة, ولا اعني الدولة, بل الأشخاص, وربما قد يفرج لنا التاريخ عن أسرار مقتل الشهيد أبو جهاد في تونس ومصادرة بيت وممتلكات عائلة المرحوم أبو عمار أيضا, ويصبح كل شيء قابل للبيع حتى المبدأ والدم مقابل مبلغ مالي. عنف النظم اللائكية لا يمارس ضد كل ما هو ديني فقط بل مس حتى المعارضة وحركات المجتمع المدني حتى وان كانت لادينية المنهج,

فهذا اللائكي المفترس يريد الصيد له لوحده, ولا بد من فصل الشعب عن الدولة فصلا, وإحكام القبضة الحديدة عليه حتى لا يشاركه أحد استبنان توابل الغنائم, فثروة عائلة بن على بلغت كلها حولي 5 ملايير أورو, موزعة على حسابات بنكية متعددة في سويسرا, ومشاريع سياحية في البرازيل والأرجنتين, وفرنسا حيث يملك فيها عمارة في باريس قدر ثمنها بحوالي 37 مليون أورو, كما ذكرت مصادر إخبارية أن زوجة بن على ليلى الطرابلسي, فرت الى السعودية بـ1.5 طن من سبائك الذهب أي ما يعادل 35 مليون أورو, وكل هذه المبالغ الخيالية قادرة على حل كل المشكل الاجتماعية التي يعاني منها الشعب التونسي.

كل هذه التجاوزات مبرر شرعي ومقنع حتى يفكر الشعب جديا في فصل الدولة الظالمة عن الشعب المظلوم, ويدخل في مواجهات لا يليق بها غير اسم الثورة, ويحمل من يسقط فيها لقب الشهيد بكل شرف, وهكذا يسير الشعب التونسي يوميا وبثبات حتى يمحو عن حياته آثار النظام اللائكي الانتهازي, ويمحو الحزب الذي أذاقه 23 سنة كاملة من القهر الى الأبد ويرمي بأرشيفه الى مزابل التاريخ, ويبدأ من جديد حياة تناسب تقاليده العربية والإسلامية, حياة خالية من الانتهازية, والظلم, والقهر.

لقد تجنبت في هذا الموضوع توظيف مصطلح العلمانية لأنه ترجمة غير صحيحة لمصطلح “Secularism” في اللغة الانجليزية, ومصطلح “Sécularité” أو “laïque” في اللغة الفرنسية, ولا رائحة للعلم في مفهوم اللائكية أو الدنيوية, أو لادينية, التي تدعو الى فصل كل ما هو دين عن الحياة السياسية للدولة, وعن المجتمع الذي تُستمد التشريعات التي تحكمه من القوانين الوضعية التي تعتمد على التجربة والملاحظة, وهو نظام ولد من رحم الكنيسة التي تحول رهبانها الى طواغيت ومستبدين سياسيين تحت غطاء صكوك الغفران والرهبنة, كما حاربت الكنيسة بقوة العلم والعلماء, فحاكمتهم وصادرت أبحاثهم وكتبهم وأعدمتهم وسجنتهم وعذبتهم, مما أدى الى ظهر ثورات أسقط هيمنة الكنسية عن الحياة السياسية والاجتماعية, كالثورة الفرنسية التي شهدت ميلاد أول حكومة لادينية سنة 1789, وميلاد شخصيات كثيرة تؤيد النظرية اللادينية, كتشارز دارون, و نيتشه, دور كايم, و فرويد, كارل ماركس, جان بول سارتر, وكولن ولسون, وصدّر الاستعمار فكره اللاديني الى البلدان العربية, وألغى التعامل بالشريعة الإسلامية, وكون الأجيال على هذه المبادئ, الشيء الذي يفسر وجود شخصيات أدبية وعسكرية كثيرة متأثرة بهذا الفكر الذي تمادى في التضييق على الحريات وعلى القيم الإنسانية والأخلاقية, وبات لزاما ومشروعا على الشعوب أن تتحرك من أجل فصل هذه الدولة الظالمة عن حياتها, تحرك الشارع التونسي ونجحت ثورته في إلقاء بن على خارج الحدود التونسية, وهاهي الآن تسير بخطى ثابتة من أجل إزاحة رائحة الحزب الحاكم من القدر التونسي, ومصرة على تنظيف الساحة السياسية منه, ومن نفس الهواء تتنفس الآن الشعوب في اليمن وفي تونس وربما امتدت الى أنظمة عربية أخرى, رياح التغيير تهب بقوة على البلدان العربية, وعلى الأنظمة التي تعتمد سياسة تجويع الشعوب وإلهائها بالقفة والزيت والسكر أن تعيد حساباتها جيدا.

كلما فكرت الدولة في فصل الشعب عنها, عليها أن تعلم أن الشعب أيضا يفكر وبجد في فصلها عنه, وكل الوديان المعكرة في العالم العربي ستشهد صفاءها يوما ولن يبقى فيها الى سيل الحق النقي.