جلس على الأريكة الفاخرة, وقد أزاح عن مفاصله البراغي, وعن عضلاته كل شد. انه في أعلى درجات الاسترخاء فالسيد المدير هو الآن أول رجل في أكبر مؤسسة عقابية للمدينة, يروح بكرسيه المتحرك إلى اليمين والى الشمال, وشفتاه تداعبان أول سيجارة يدخنها بالمناسبة, ويداه تتأملان قلمه الفاخر الذي سيخصصه للتوقيعات الهامة.

وكأنه لا يصدق ما يعيشه في هذه اللحظات, فيرسل عيناه تتحسسان له المكان لتخبراه بأن وجوده بالمكتب حقيقة فعلا, ويرسل أحاسيسه تعانق الهواء لتألفه فيأخذ نفسا عميقا ويحرقه نشوة بين أنغام زفير هادئ.

إنها أمواج السنين, تراكمت و رمت به إلى شاطئ المسؤولية ومنحته عصى النهي والأمر بعد أن قضى تحت رحمتها سنينا طوال.

مشاعر الغبطة ترسمان على ملامحه ابتسامة الفرحة, وتدفعانه إلى مص سيجارته بعمق, ونفث دخانها بقوة أنفاسه.

” انه حلم العمر, وإنها لفرصة العمر”

يستجمع نفسه و ينهض من مكانه, يتجه نحو المرآة يتأمل منظره الجديد:

” بالصحة أيها المدير, بصحتك, ها أنت الآن تعيش الحلم”

” كم عانيت قبل أن تصل إلى هذا المكان, وتحملت من الناس ما لم تتحمله الجبال, كنت كلما دخلت هذا المكان إلا تأكدت من جلوسك فيه يوما ما.”

” إنها فرصتي لأصنع لنفسي أحسن حال قبل أيام التقاعد”

وغنى لنفسه أغنية الغالطين, فالمنصب بالنسبة له لا يدوم, وما يدوم هو الجيب الممتلئ الذي يقي صاحبه حر الزمن الذي لا يؤتمن.

واستحضر في باله صور الذين مروا من هنا وكيف خرجوا سمانا بسكنات راقية وسيارات فاخرة.

طبعا وسائل جمع المال الوفير التي انتهجها أسلافه عديدة, فالسجين إذا أراد أن يكون في زنزانة واسعة, أو أراد أن يجلس قليلا في الشارع, أو أن يتجول في المدينة, أو يفوز بقفة العائلة كاملة, أو يحظى بمقابلة الأهل في غير أيام الزيارة, فما عليه أو على ذويه إلا دهن السيل لكي يسيل, أما إذا أراد الخروج من السجن والاحتفال بحكم البراءة فلا سبيل له إلا أن يكون أكرم من الطائي فالورقة النقدية تفعل في الأحكام فعل السحر.

مشروع توسيع السجن وتجديد هياكله, وتأثيثه كان مشروع العمر الذي طالما انتظره, فالسمكة كبيرة, وهي فرصته لكي يضمن لنفسه مستقبلا مريحا بعد التقاعد.

وشرد به التفيكر بحثا عن القارب الذي يوصله إلى تحقيق أرباحه من المشروع, واستقر به الاختيار على أحد المؤسسات المبتدئة, فالمشروع كفيل بأن يسيل اللعاب ويدوخ العقول.

اسم المؤسسة في مذكرته والمعطيات تفي بنجاح الخطة, فصاحب المؤسسة يمر بصعوبات مالية ومؤسسته على وشك الإفلاس ولا مناص له من قبول العرض. فأنى له أن يرفض وبين يدي المدير ما يذيب الحجر ويشبب الهرم, ويقيم المعوج وينعش المغشي عليه.

وعزم على تحديد موعد مع صاحب المؤسسة, وضبط معه موعدا, بعيدا عن الأنظار وكان له ذلك على طاولة عشاء فاخرة في إحدى فنادق المدن المجاورة.

يدخل سعيد المقاول إلى مطعم الفندق الفاخر, ويجلس مشدوها إلى الأجواء.

سعيد: مساء الخير سيدي

السيد المدير: مساء الخير كيف الأحوال؟

سعيد: بخير, الأجواء هنا أكثر من رومانسية وأكثر من رائعة.

السيد المدير: تستطيع المجيء إلى هنا الوقت الذي تريد.

سعيد: كيف؟

السيد المدير: إذا كنت ذكيا ووعيت بعقلك ما سأعرضه لك الآن, إنها ليلة من ليالي القدر.

سعيد: تفضل سيدي

السيد المدير: هناك مشروع هام بخصوص توسيع السجن وتأثيثه وترميمه, دون أن أدخل في التفاصيل, فدفتر الأعباء الذي ستطلع عليه يحوي كل صغيرة وكبيرة.

سعيد: لي سجل تجاري خاص فقط بأشغال البناء, شق التأثيث لا يخصني.

السيد المدير: ستقوم بإضافة بنود إلى سجلك, شيء سهل.

سعيد:وهل الوقت في صالحنا؟

السيد المدير: كل شيء بين يدي

سعيد: ما أعرفه أن المشروع سيعلن حسب القانون على شكل مناقصة وفيها لجنة تقوم بفتح الأظرفة.

السيد المدير: هذه المسرحية الساذجة أتولى أمرها لوحدي.

سعيد:ماذا عن بقية التفاصيل؟

السيد المدير:أنت صاحب المؤسسة وأنا صاحب المشروع الأرانب مناصفة, كما أني أعلم انك تمر بمرحلة مادية صعبة, عندما توقع على الصفقة أدفع لك تسبيقا تستأنف به الأشغال.

سعيد: اتفقنا.

ومضت ليلة الحالمين على حديث المشروع والملايين, والموسيقى الهادئة والعشاء الدسم. ونسي السيد المدير, وفات انتباهه ونباهته أن سعيد كان أسيرا في السجن الذي هو الآن مديرا فيه, حيث حبس ظلما ودون وجه حق, وفات انتباه السيد المدير أن سعيد لم ولن ينس الظلم والعنصرية التي لاقاها أيام الحبس, وكيف كان يستولي على ما كان يصله من والدته وزوجته من طعام وسجائر. ولاح في أعماق سعيد أن يضرب بقوة, يستولي على أموال المشروع, وينتقم للسنين التي قضاها في السجن دون وجه حق.

وسارت الأمور كما دبر لها ونجح سعيد في التوقيع على صفقة المشروع, واستلف مبلغا من المال, إضافة للتسبيق الذي منح له. وسار الإنجاز في مختلف مراحله سيرا حسنا ونجح سعيد في تحقيق كل بنود الصفقة, ولم يترك أي أثر لأي غلطة فقد عمل جاهدا على أن يكون المشروع خال من أي عملية غش أو تزوير فالسنين التي قضاها ظلما في السجن علمته الكثير, وليس له أي استعداد لأن يدخل هذا المكان الحقير مرة أخرى, فأموال المشروع كله لا تساوي ليلة واحدة بين هذه الجدران.

وحانت الساعة التي كان ينتظرها السيد المدير طويلا فقد أعد قائمة لمشاريعه الجديدة, ومن الغد يبدأ في تحقيق أول بنود الحلم.

والملتقى هذه المرة في فندق اختاره سعيد, أرقى وأفخم من سابقه.

السيد المدير: لقد تعلمت أيها التلميذ النجيب, وها أنت تحصد ما تعلمته غنا, وثراء.

سعيد: تلميذكم سيدي, المهم لقد جئتك بالشطر الأول من المبلغ المتفق عليه, كل شيء في الحقيبة التي هي الآن قرب رجليك.

السيد المدير: حسن ممتن لالتزامك, بالنسبة للشطر الثاني أريد شيكا قبل أن أمضي لك عن الوضعية المالية النهائية, ومبارك عليك النجاح.

سعيد:لا بأس غدا صباحا يكون عندك الشيك.

السيد المدير: سأضطر الآن إلى المغادرة, تمتع بعشائك وليلتك, نسهر المرة القادمة.

سعيد: كما تريد سيدي.

وابتسم سعيد ابتسامة فيها من كل ألوان المكر, فالسيد المدير لم يتجاوز عتبة الفندق حتى ألقت الشرطة القبض عليه وفي يده حقيبة الملايين, سعيد الماكر المنتقم, بلغ الشرطة على أساس أن المدير طلب منه رشوة لتحرير مستحقاته, ووفاهم بمعلومات عن موعد الليلة, وأكمل سهرته وبين شفتيه سيجارته قد كتب عليها “هذا فخ السجين”, واستمتع بحرقها حرفا حرفا على مذاق البن الأصيل.

ودخل السيد المدير الحبس بعد أن صدر في حقه الحكم, فكان له أن يدخن أول سيجارة بين القضبان, ويتعلم بينها درسا متأخرا عن الحياة, فلا ينفع الآن الندم, فالأخلاق والقناعة سبيل الناجين والناجحين, وانتبه إلى عبارة كان قد كتبها سعيد من قبل على جدار السجن, “هذه دار الظالم لا المظلوم!!, .


صورة القصة مأخوذة من هذه الصفحة