السرد المكتوب افتراضيا بين الأصالة والتجديد

01 أكتوبر 2017
بواسطة في مقالات مع (0) من التعليقات و 37 مشاهدة

قبل كل شيء
قبل ظهور تقنية الحاسوب واختراع الشبكة العنكبوتية، لم يكن متاحا للجميع النشر والتأليف، فالنصوص كان مقدرا عليها المرور على “سكانيرات” المدققين والمحررين، وكل نص لا يستجيب للشروط مصيره سلّة المهملات. من الأكيد أن كمّا هائلا من المذكرات والخواطر والمقالات والقصص كانت حبيسة الرفوف تنتظر اليوم الذي ترى فيه نور النشر. لكن بعد ظهور تقنية الحاسوب وانتشار ثقافة الإنترنت، أصبح كل ذلك من الماضي خاصة مع ظهور منصات التدوين المجانية الناطقة باللّغة العربية سنة 2006، مثل منصة مكتوب الشهيرة التي اشترتها بوابة “ياهو” ثم قامت بحذفها نهائيا بعد ذلك، ومنصة “بلوجر” التي يديرها موقع جوجل والتي ما زالت لحد الساعة منصة لملايين المدونات الناطقة بمختلف اللغات، كذلك التقنية سمحت لأي مواطن بتصميم مدونته الخاصة أو شراء مدونة جاهزة وتسكينها على الشبكة وهو ما يعرف بالمواقع المدفوعة.

كل هذه الحلول مكنت الكاتب من تخطّي جميع عقبات التدقيق وشروط النشر، وأصبح الجميع ينشر عن واقعه المعيش حتى عرفت هذه المدونات واشتهرت بصحافة المواطن أو الإعلام الجديد. ومع ظهور الشبكات الاجتماعية التفاعلية مثل فايس بوك وتويتر جنّ جنون المعلومة، وأضحى العالم يقرأ لذلك المواطن البسيط ويتفاعل مع نصوصه وأخباره وتقاريره. لم يعد هناك ما يحول بينه وبين العالم، فرغم المتابعات القضائية وأحكام السجن، لا زال فضاء الإنترنت فضاء لحرية الكتابة والتعبير.

لم تعد منصات التدوين والشبكات الاجتماعية منصة للتدوين الصحفي والإخباري فقط، بل فضاء لمختلف أنواع الكتابة وفي أي مجال يمكن أن يتخيله العقل، ومثل غيرها، للكتابة الأدبية نصيبها المحترم، الجميع يكتب، وربما خالف جلّه أو بعضه المعايير الأكاديمية، والكثير، لا زال إلى غاية سطره الأخير لا يعلم إلى أي جنس أدبي ينتمي نصه.
لقد ساهمت المنتديات والمجلات المتخصصة والعامة بقسط وافر في ذلك، وبدرجة أكبر مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة موقع فايس بوك من خلال ما يتيحه من تقنية النشر على الحسابات الخاصة، والمجموعات والصفحات، لقد أصبح متاحا لأي كان أن ينشئ مجموعة أدبية، ويدير النشاط الذي يشاء.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى إنشاء اتحادات وجمعيات ودور نشر افتراضية، كما انتشرت ثقافة المسابقات انتشار النار في الهشيم، وبرزت إلى الوجود الافتراضي لجان تحكيم، وجوائز، وحتى اختراعات وابتكارات أدبية.

السرد الافتراضي في لونه الأبيض
لو تحدثنا عن الجانب المضيء من واقع السرد الافتراضي، لتحدثنا عن:
• ظهور جيل جديد تستهويه الكتابة الأدبية، فرغم ضعف الرصيد اللغوي والرصيد المعرفي الأكاديمي، إلا أن الكاتب الجديد لا يجد حرجا في عرض قصصه، وهي فرصة له، إن كان له بعد نظر ونفس طويل، من أجل تحسين أدائه، من خلال تثمين آراء وانتقادات الغير، ومن خلال مطالعته المستمرة لكتابات رواد الأدب المعروفين سواء على الشبكة العنكبوتية، أو من خلال منشوراتهم الورقية.
• انتعاش ثقافة القراءة النقدية والانطباعية للنصوص القصصية، فأصبحنا نشاهد نقادا جددا يجيدون الإبحار في أغوار النصوص، وحتى المجموعات والمنتديات والمجلات أصبحت تعتني بالنقد وتخصص له أقساما على صفحاتها، كما بدأت تظهر إلى الوجود مواقع تختص بالنقد فقط، وأعتقد أن هذا سيفيد كثيرا الكاتب المتمرس والكاتب الجديد على حد سواء.
• ظهور مقالات ودراسات سردية، والتي رغم قلتها أو ندرتها تحاول أن تشخص الواقع، وتحصي المشاكل والعقبات وتقترح الحلول من وجهة نظر صاحب المقال وبناء على تجربته ورصيده الأكاديمي، كما تختص كثير من المقالات في توجيه الكتّاب الجدد خاصة إلى خصائص ومميزات مختلف الألوان الأدبية.
• ظهور مكثف للمسابقات الأدبية، والتي من شأنها أن تضع مختلف النصوص المرشحة على المحك، وإن كانت الذائقة ما يميّز جلّ التحكيم الافتراضي إلى أن الكاتب يمكنه استخدام هذا التقييم مقياسا لأدائه. وربما حفزه ذلك على استدراك النقائص وسعى في مشاركات لاحقة إلى تحسن ترتيبه، وإن كان هذا لا يعني التميّز.
• انتعاش ثقافة النشر الإلكتروني، فان كان النشر الورقي يتطلب مالا ووقتا، فالنشر الإلكتروني متاح في أي وقت، من خلال الأدوات التي توفرها البرامج والمواقع، كما أصبحنا الآن نعرف كثيرا من دور النشر الإلكترونية التي تقوم بتقديم خدمة التنسيق والتدقيق والتحويل والنشر.
• كثير من المجموعات القصصية المطبوعة ورقيا مرت على الرواق الافتراضي، وهذه نقطة ذهبية تحسب للكتابة الأدبية الافتراضية.
• ظهور كثير من المنتديات والملتقيات والمؤتمرات التي ترجمت اللّقاء الافتراضي إلى لقاء واقعي وناقشت مختلف القضايا والأمور التي تخص الكتابة السردية.

النقطة السوداء
قد نختلف في تقدير حجمها، غير أننا نتفق على وجودها، وقد امتزج فيها:
• الكتابة دون احترام لقواعد اللّغة العربية، فما أكثر الأخطاء الإملائية والنحوية في النصوص الأدبية، خاصة علامات الترقيم التي يمكن القول دون تردد أن واحدا في المائة من يكتب بها، وقد تتعجب أحيانا من نصوص لكتّاب معروفين يكتبون بالفاصلة اللاتينية مثلا، وتنتهي نصوصهم دون نقطة نهاية. وهذا كله يجرّد النص الأدبي من الجدية والقيمة الأدبية.
• سباحة الكتّاب العرب في فضاء من الضياع والتيه والخلاف بسبب مسائل عالقة تتعلق بجنس وحجم بعض الألوان الأدبية، كالقصة القصيرة جدا مثلا التي تجد لها أكثر من رأي على الشبكة، فالنص الذي يعتبر ققج عند البعض هو ليس كذلك عند البعض الآخر، وهناك من يكتبها في عدد معين من الكلمات.
• ظهور ألوان أدبية، تسَابق الكثير في ادعاء اكتشافها، كالقصة الومضة مثلا، والتي يتسابق مدعو الاكتشاف الخارق إلى إنشاء مجموعات ومسابقات ومواقع وتجمعات ومؤتمرات وجوائز تختص بهذا اللّون. وفي هذا اللّون بالتحديد يتسابق كثيرون في اختراع ألوان أخرى له كالومضة الموزونة والومضة الغير المنقوطة، وغيرها من الأسماء الجديدة المستحدثة. كما ظهر لون آخر يسمى بالمتلازمة، وبسرعة البرق يجري حديث الآن عن روائع المتلازمات.
ورغم كل ما ذكرناه، نحن عند عتبة المنطق، ففي كل الأمور التي تمسّها يد الإنسان إيجابيات وسلبيات، وليس الأدب بالاستثناء فعبر فترات كثيرة وقع الخلاف والاختلاف بين الأدباء والمدارس الأدبية.
ولكن أين الخلل؟، وما الحل؟، سؤال صعب، ولا يمكن تحديد الأمر بدقة إلا من خلال دراسات دقيقة لواقع السرد الافتراضي بصفة خاصة والكتابة الأدبية بصفة عامة، ولعل غياب من يتفرغ لهذه الدراسة سواء أشخاص أو هيئات سيؤجل فهم الخلل. من وجهة نظري هناك أسباب كثيرة من أهمها:
• ضعف المنظومة التربوية التي أضحت تخرّج أجيالا لا تفقه الكثير في قواعد اللّغة العربية، وفي قواعد الكتابة الأدبية. سنربح الكثير إن نحن وقفنا مطولا عند هذه النقطة، فإعادة النظر في منهجيات تدريس اللّغة العربية، وإدراج مادة الفنون الأدبية، وتشجيع الأجيال على القراءة والكتابة، ستنتج لنا جيلا ذهبيا قد يصنع لنا اسما أو أسماء عالمية في مجال الكتابة الأدبية. وقبل كل هذا علينا الاهتمام بالتعليم القرآني، فذلك من شأنه أن يثري رصيد أجيالنا اللغوي، وينمي فكرها، فلطالما تساءل الغرب عن سر تفوق المسلمين لقرون رغم حياتهم البدوية، فانتهوا إلى نقطة حفظ الأجيال للقرآن وهم صغار الأمر الذي نمّى فيهم ملكة الفكر والإبداع.
• غياب هيئة عربية أدبية رسمية، تكون مؤتمرا للكتّاب العرب، والتي من خلالها يتم مناقشة جميع الإشكاليات الأدبية والمصادقة على البحوث الأدبية الجديدة. وليس بالفكرة المبتدعة فكثير من العلوم والتخصصات لها مؤتمرات خاصة، تهتم بمناقشة واعتماد البحوث الجديدة، إن نحن فعلنا، ستتضح كثير من الأمور وسيتم الإجابة على كثير من التساؤلات، وسينشغل أغلبنا بالإبداع لا بالاختلاف والنقاش الجانبي حول الألوان والأحجام.
• غياب التكوين على الشبكة العنكبوتية في مجال اللّغة العربية والفنون الأدبية. وأقصد التكوين عن بعد الذي يمكّن الكاتب الجديد من الحصول على شهادة ولم لا؟، فالشبكة العنكبوتية تعج بالمواقع والمنصات التي تكوّن في مجال اللّغات بطرق علمية وتربوية حديثة، ويعج بالمنصات التي تكوّن في مختلف المجالات الأخرى، لم لا تكوُن لنا منصة تمكن المواطن العربي والخلق أينما كانوا من تعلم العربية والفنون الأدبية؟، فالرصيد النظري مهم للكاتب وقد لا تكفِي الموهبة وحدها.

بين الأصالة والتجديد
بعضهم يسعى إلى السبق الأدبي ويدعي اكتشافه للون أدبي جديد، يؤسس المجموعات الأدبية على الفايس بوك، ويطلق مواقع الكترونية خاصة بلونه الأدبي، بعضهم تطور الأمر عنده كثيرا لدرجة تنظيم مؤتمرات وملتقيات وجوائز مادية ومعنوية، في الجهة المقابلة أيادٍ تلوّح بالمعارضة والغضب معتبرة هذه التصرفات مسيئة ولا تمت للأدب بصلة، وترى فيها انحرافا عن الخط الأصيل للأدب العربي.
التجديد هو روح الإبداع، وما وصلت إليه البشرية اليوم من تطور حدث بسبب الرغبة الملحة في التجديد والتطور، الإنسان القديم الذي رسم خطا بمسماره على الطين أو الصخر أبهر إنسان زمانه، ولكن لم تقف البشرية عند خطه، بل سعت على مرّ الأزمان إلى التجديد والتحديث وتحول الخط البسيط المرسوم على الطين إلى تحف فنية وحضارية ورسومات وخطوط لغوية بديعة، هذا الخط نحن نكتبه الآن من خلال الحواسيب، بل وهناك من لا يكلف نفسه عناء الكتابة، الآن هو يقول والآلة تكتب.
واقع محتوم مرّ عليه الشعر العربي مثلا عبر العصور، لا يتسع المقام للتفصيل فيه، والقارئ والشاعر العربيان يستمتعان الآن بما يعرف بالشعر الحديث الذي يختلف عن الشعر التقليدي أو الكلاسيكي، ويتميّز عن غيره بالمضمون والأسلوب والتفعيلة الواحدة، واللّغة البسيطة.
لا يمكن للسرد والكتابة القصصية أن تكون استثناء ولا يمكن لأي كان أن يدخل أسلوب القص ولونه إلى الثلاجة ويمنع بأي مبرر كان أي تجديد. غير أن لهذا التجديد قواعدا وأصولا ينبغي أن لا نحيد عنها:
– حقوق المؤلف: فلا يجوز لأحدهم أن يقتبس لونا أدبيا من الغرب ثم يقوم ببعض التغييرات في الفاصلة والنقطة ثم يدعي الاكتشاف.
– ألا يتعارض الجديد مع أصول اللّغة العربية وقواعدها، وإن كان الإسم الجديد للّون الأدبي سيجد له مكانا في القواميس والمعاجم الحديثة، فالعربية أيضا لغة حية ومعنية بمواكبة الجديد.
– التنظير المقنع، وتبيان القواعد الأكاديمية والعلمية للون الجديد، من خلال دراسة أدبية عميقة.
– على الطرف المعارض ألا يكون معارضا لأجل المعارضة، وأن يتفادى طرق السب والشتم والتحقير، وأن يشهر القلم مستندا على التحليل والتنوير، والرد بالعلم والدليل.

ختاما
“أصبح كل من هب ودب يكتب وينشر على الانترنت”، عبارة كثيرا ما نقرأها، ولكن على من ينطق بها أن يعرف أن الفضاء الافتراضي جُعل لكل من هب ودب، وإن كان الكاتب المقصود هنا لا يستحق هذا الوصف، بل هو كاتب جديد يستحق منا كل العناية والمتابعة والتشجيع، فالذي نشر نصا ضعيفا قبل قليل، قد يبهرنا بنص مميز ذات يوم، الكاتب كائن سريع النمو، وأقصد به الكاتب الذي يملك طموحا ويرغب في النجاح. هذا الكاتب بالتحديد قد يصبح يوما ما ناقدا بارعا، أو محللا فذا، أو مكتشفا عبقريا.


  • النص على مجلة قصيرة من هنا
  • النص على مجلة الرابطة اليمنية للقصة القصيرة جدا من هنا

 

Tweet
الاوسمة: ,
يحيى أوهيبة

كتب بواسطة :

Retweet

انشر الموضوع

RSS Digg Twitter StumbleUpon Delicious Technorati facebook reddit linkedin Google

مواضيع مشابهة

  • لاتوجد مواضيع مشابهة

أضف تعليق

CAPTCHA
Refresh

*

Social Widgets powered by AB-WebLog.com.

Please don't print this Website

Unnecessary printing not only means unnecessary cost of paper and inks, but also avoidable environmental impact on producing and shipping these supplies. Reducing printing can make a small but a significant impact.

Instead use the PDF download option, provided on the page you tried to print.

Powered by "Unprintable Blog" for Wordpress - www.greencp.de