” لا تقربوها.. لا تقربوها.. “

” دعوها..لا تقربوها”

” إن كانت نائمة فدعوها تنام, وان كان مغشيا عليها فدعوها في غشيانها, وان كانت ميتة فدعوها تستريح”

” أنى لها إذا ما أفاقت أن تصبر على جروح الوطن الغالي, فليس من الرأفة أن ترى عيناها الخراب الذي حل بقرانا وشوارعنا وبيوتنا, ليس من الرأفة ولا الرحمة أن ترى عيناها أيادي الخيانة وقد لطخت شرفنا وكرامتنا”

“دعوها في غشيانها, فزعيم المدينة قتل, وجوامعنا أحرقت, مصاحفنا دنست, والقلوب فتنت, ولم يبق ما يصلح لأن تراه”

“أكلوا, وتملقوا, وطبعوا, وباعوا كرامتهم ليعيشوا على فتات الدنيا الزائل”

” ووراء جدار المدينة خونة للوطن وللقضية”

“خيانة” ” وراء الجدار خيانة”

لم يكن مجنونا أو فاقدا للعقل وهو يصرخ بين الناس وهم محتشدون أمام جثة الزعيم المغدور.

ولم يكن يأبه لكلامه أحد فهو في نظر الجميع مجنون, فالرجفة التي سكنت جسده والغموض الذي سكن حروفه حال دون أن يفهمه الجميع.

وما قصة الجدار إلا ضرب من هلوسة.

حبه لزعيم المدينة زاد من مرضه, وألهب أشجانه ولسانه. وكلما تذكره استرسل في نصه المعهود:

” لم تشرق حتى غربت, ولم يشرق هناؤنا حتى غرب بين ألسنة نيران الغزاة, وَثبت وتعجلت, ونصب لك الغادرون أفخاخ الموت, فتقت إلى عالم أرفع.”

” شح علينا الزمان براحة البال, والمجرمون عند كل عتبة, هل اختارنا القدر لأن نكون بوابة العهد الجديد للحرية, لكن الثمن غال بين حشرجة الموت وهول المذابح.”

“ََوَثَبت وتعجلت, ولم تكن لتلوح بالبنادق والرصاص. كنا مع بعض نبني صرح الوطن حجرة حجرة, وأطللنا على العالم تتسارع خطانا مع الآفاق, وخانتك مشاعر النقمة على الظلم وقلت “لا للظلم والظالمين”. وَثبت وتعجلت, وانقض عليك الغادرون وعبدة الموت والنار. واختارتك المعركة شهيد المدينة والوطن, وتركت وراءك جدارا وقد اندست خلفه الخيانة.”

ولم يكن مجنون المدينة كباقي المجانين, فهو يرتاد الجوامع لأداء الصلاة, وقراءة القرآن, والتصدق على الفقراء, ولكن الناس أصروا على أن يكون مجنونا من مجانين المدينة.

” قوموا, توحدوا أخرجوا الغازي من بلادكم, أقتلوا الأفعى التي تسمم أخوتكم ووحدتكم, وحطموا جدار الخيانة”

“أنتم المجانين أيها المجانين أنتم المجانين أيها المجانين”

“سيبيدونكم ويبيدون فيكم كل عقل وخير”

أفيقوا أيها المجانين”

ويصيح بأعلى صوته:

“مجــــــــــــــــــــــــــانــــــــــــــيــــــــــــــــن”

كان قبل أن يغزو المرض جسده, إنسانا قويا, ذا شخصية مؤثرة وجذابة, صارم القرار, جميل المظهر حكيما, ذا تاريخ ومواقف تشهد لها كل المدن, قبل أن يغزو الغازون دياره ووطنه, وتخرج الأفاعي السامة القاتلة من أوكارها, ويخرج من وراء حدود المدينة التواقون للنار يحرقون أمجاد الأجداد ويعبدون ألسنتها, يقتلون ويسرقون ويغتصبون, فمرض حزنا على الوطن, وما ضاع من الوطن, فسكنت الرعشة جسمه القوي, وارتجفت يداه وعيناه.

لكنه لم يستسلم بل عاهد نفسه, واعتزم أن يقاوم المرض ومن خان الوطن.

” في الوطن أحرار, في الوطن أحرار, سيقتلونكم يا كفرة, يا خونة”

ويضحك هذه المرة ضحكة المجانين

” من يسلم منكم من القتل يصيبه مس الجنون”

ويجري بين أسواق وأحياء المدينة يرددها دون توقف:

” من يسلم من القتل يصيبه مس الجنون”..” من يسلم من القتل يصيبه مس الجنون”

يجري بين أحيائها وقد شد بصره الخراب, والجدران والطرقات الملطخة بدم المغدورين والأبرياء. وكلما رأى جمعا من الناس شق طريقه إليه وقد علم أن بالمكان طفلا ضحية.

” دعوه..لا تقربوه”

” أنى له إذا ما أفاق أن يصبر على جروح الوطن الغالي, فليس من الرأفة أن ترى عيناه الخراب الذي سيحل بقرانا وشوارعنا وبيوتنا, وليس من الرأفة ولا الرحمة أن ترى عيناه المزيد من الخيانة وقد لطخت شرفنا وكرامتنا.”

” إلى الجدار يا أبناء المدينة المخلصين إلى الجدار”

وسار مجنون المدينة صوب الجدار, وراح يجري على طوله ذهابا وإيابا, ونفسه تواقة لأن تعرف ما يخفيه. فهو يعلم حق اليقين أن الدمار آت من خلفه, وأن الخيانة مدبرة من وراءه.

” أيها الجدار اللعين أيا كان طولك سأفضحك, أيها المتسترون خلف الجدار أيا كنتم سأفضحكم.”

“أيها الجدار ألا ترى نفسك وأنت موسم بدم الأبرياء ألا تستحي من تلك الأسماء الطويلة التي غرزت في أكبادها نصلة الموت, ألا تستحي والمجرمون وراءك يصنعون للوطن آفاق الدمار”

ولم يمل من الجري والهرولة ينظر إلى ارتفاعه وأحجاره عله يجد سبيلا يصل به إلى القمة.

ولكنه فعلا وجد الحل ففي مكان ما من الجدار فتحة صغيرة, بذل الجهد الجهيد لأن تكون مستقرا لعينيه, من حسن حظه أنها لم تكن بعيدة. فوقف على حجرة قريبة تؤدي به إلى رؤية ما لم يتمكن من رؤيته الكثير.

وأطال مجنون المدينة النظر, وبدا من بعيد وكأنه تحجر مع الجدار, فهول ما رآه شده حتى تورمت رجلاه, وعاد أدراجه إلى المدينة, في سرعة المجانين يشد الناس من ثيابهم ويصرخ

” الحاقدون, الغادرون, والقتلة وراء الجدار, المعممون يا سفلة لن يهنئوا حتى يبديكم عن بكرة أبيكم”

“غافلون وسفلة.. غافلون وسفلة”

التف الناس حوله وقد شدهم صراخه.

” لا تقربوني, دعوني في جنوني, فليس من العقل أن أرى الخيانة تسري في عروق الوطن, تقتل فينا الشرف والعرض والكرامة”

“دعوني في جنوني فقد مل عقلي منكم ومن برودة الدم التي تسري في عروقكم, بيعوا أنفسكم وعيشوا مثل البقر, فسيأتي الوقت الذي ستذبحون فيه وأنتم غافلون”.

لم يمل الصراخ والجدار اللعين جاثم على صدره.


كتبت سنة 2009