أجدادنا القارئون

القراءة هي أول ما نزل على نبينا الكريم في غار حراء يقول سبحانه وتعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم (اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم), إنها لحظة من أعظم اللحظات في تاريخ البشرية, اللحظة التي نزل فيها الوحي من العلي القدير على نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم, الوحي الذي كرم بن آدم بنور الله بعد أن تاه دهرا باحثا عن حقيقة خلقه, يعبد ما اختاره له خياله من أصنام وشمس وقمر ونار وماء وحيوان وبشر, إنها اللحظة التي شهد فيها الإنسان حقيقة خلقه وعرف فيها الحق تبارك وتعالى, لقد كانت اللحظة سدا ضخمابين جاهلية عمياء وبين عهد جديد تحكمه القيم الربانية السامية, اللحظة التي تعلم فيها نبينا الأمي القراءة, وتعلمتها بعده الأمة الإسلامية وكل العالم, القراءة باسم الرب الذي خلق, وليس أي قراءة, إنها القراءة بمنطق الحق, فأول ما قرأ محمد وأصحابه القرآن الكريم الذي أنزله الله للبشرية يوجهها ويرشدها حتى لا تزيغ عن الحقيقة التي خلقت من أجلها, وطبقوا تعاليمه وتوجيهاته في حياتهم اليومية, وأضحت القراءة وطلب العلم الهم الأول لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, وفي سيرته الشريفة أروع الصور عن اهتمامه بتعليم المسلمين القراءة والكتابة كقصة فداء أسرى بدر بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة, فهذه القصة ليست بسيطة فلينظر الإنسان إلى الحروب الآن ولينظر إلى الأسير كيف يعامل وليعد هذا العالم الذي يدعي التحضر إلى صور سجن أبو غريب في العراق وفي غوانتنامو وليخبرنا عن حضارة قوات التحالف التي تدعي الحضارة والعلم, لا يوجد أسير حرب لا يهان الآن في سجون العالم, وفي زمن غير بعيد عن زمن الأمية والجاهلية هاهو النبي الكريم بعد أن قرأ باسم الله يكرم الأسير ويمنحه حريته مقابل أن يعلم أبناء المسلمين القراءة والكتابة, القصة وحدها تكفي كل من في نفسه شك فيعرف من خلالها حقيقة الرسالة.

وبهذا الوحي ظهرت طبقية جديدة في المجتمع العربي المسلم بعد أن كانت طبقية غنى وفقر, وأصبحت طبقية علم وجهل ففي عهده صلى الله عليه وسلم كان يقدم الإنسان المتعلم, ويمنح أرقى المراتب في المجتمع المسلم, حتى في الصلاة يقدم الحافظ لكتاب وأقرأهم له,أمتنا تفوقت بعد أن قرأت وصنعت حاضرها ومستقبلها بعد أن علمها العالم الحكيم بالقلم ما لم تكن تعلم فكتبت وأبدعت, ولا زال العالم ينظر إلى حضارتنا العربية والإسلامية بعين الاحترام والتقدير فهي مقدمة ما تعيشه البشرية الآن من رفاهية علمية وتكنولوجية.

والأمثلة التي قرأتها عن تعلق المسلمين بالقراءة وتحصيل العلم تجعلك تكتشف أن ما وصلنا منهم من علم لم يأت من العدم أو من القراءة والكتابة في أوقات الفراغ, بل من عشق وهيام للحرف والكلمة, من الأمثلة التي أدهشتني ما اشتهر به عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي صاحب الكتاب العظيم : ( الجرح والتعديل ) ملازمته لوالده ، وكثرة أخذه عنه ، وكان يقول : ” ربما كان يأكل وأقرأ عليه ، ويمشي وأقرأ عليه ، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه ، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرا عليه ” ( سير أعلام النبلاء 13/251 )(1)

يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: ” وأمّا عُشّاق العلم فأعظم شغفاً به وعِشقاً له من كلِّ عاشقٍ بمعشوقه ، وكثيرٌ منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر ” [ روضة المحبين 69 ] (2).

لمـحبرة تجـالسـني نهـــــــــاري    أحــب إلىّ من أُنْس الـصديق

ورزمـة كـاغـد في البيت عندي      أحــب إلىّ من عِـدل الـدقيق

ولطمة عـالم في الخـد مــــــني    ألذ لديّ من شـرب الـرحـيـق

وذكر السخاوي رحمه الله في ترجمة شيخه الحافظ ابن حجر :

” وقد سمعته يقول غير مرة : إنني لأتعجب ممن يجلس خالياً عن الاشتغال” [ الجواهر والدرر 1 / 170 ]

قال مقيده _ عفا الله عنه _ ومن صدق ما قال رحمه الله: أذكر مرة أنني اشتريت كتاباً من الرياض وسرت نحو الشرقية فما استطعت المواصلة شوقاً إليه، فما كان مني إلا أن توقفت في الطريق وقرأت الكتاب بأكمله ومن ثم أكملت مسيري .(3) .

إنما يخشى الله من عباده العلماء, فالعالم الذي وقف بنفسه على حقيقة الخلق ولمس في مخبره آيات الله العظمى في هذه الحياة, عبادته ليست أبدا كعبادة الجاهل, وهذه الدرجة الكبيرة من العلم تجعل العالم دائم الجوع إلى كتاب يقرأه أو شيخ يجالسه, فهو لا يمل ولا يكل من طلبه وكيف يمل وهو دليله الذي عرفه بالله وآياته, وليس غير تلك العزيمة التي صنعت الحضارة العربية على مدار ألف سنة كاملة, سطعت في سمائها أسماء من ذهب صنعت الحضارة وأنارت على البشرية باكتشافاتها واختراعاتها, هل كنت يوما سأكتب على الحاسوب وأنشر في مدونتي لولا خوارزميات الخوارزمي التي اعتمد عليها في تصنيع برامج الحاسوب وكل العالم يدين له بفضل ما تعيشه البشرية من رفاهية الانترنت والبرمجيات, وهذا ابن الهيثم عالم البصريات الذي وضع أسس آلة التصوير الفوتوغرافية, والنظارة الطبية, وشرح مكونات العين شرحا دقيقا وأبطل نظرية خروج الشعاع من العين, واثبت أن شعاع الضوء هو الذي يدخل إلى العين وينعكس على الجسم المرئي, وابن سينا في الطب الذي أعتبر كتابه القانون في الطب مرجعا لأطباء العالم على مدار قرون من زمن, وقائمة طويلة من أسماء العلماء والمكتشفين الذين أبهروا البشرية على مدار قرون باكتشافاتهم, كل هذا طبعا لم يأت من العدم بل اجتهد علماؤنا في الإطلاع على الحضارات الأخرى وتعلموا لغاتهم وترجموا كتبهم, وأخذوا ما يفيد في صناعة الحدث الجديد, وكان جمع الكتب وقراءاتها شغلهم الشاغل, وما الانهيار الذي أصاب أمتنا إلا من ابتعادها عن الكتاب والقراءة, وانشغالها برفاهية العيش وملذات الحياة, وعندما قرأ المتربصون بوحدتنا مجتمعاتنا وأدركوا فيها نقاط الضعف تلك أجهزوا عليها وفككوها دويلات وقبائل وأخذوا منا كتبنا وترجموها وطوروا الأبحاث في شتى الميادين, وهاهي التكنولوجيا الجديدة التي يعيشها الإنسان تتقدم كل يوم بخطى عملاقة بفضل الإنسان القارئ. ولن نقول جديدا أن أخبرنا أن طريق الأمة العربية والإسلامية نحو الوحدة والعزة والخلافة تمر حتما بهذا الطريق, الإيمان والعمل الكامل بأول ما نزل على أشرف الخلق(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم). يتبع

مراجع

(1) (2) (3) موقع صيد الفوائد.